ـ خائفون؟ لماذا؟
ـ ألم تسمع إذن؟
ـ أسمع؟ ماذا؟
ـ الرهائن ذهبوا.
ـ متى؟ كيف؟ سألها باقر وقد فاجأه الخبر كل المفاجأة.
ـ الليلة وافقوا على إطلاق سراحهم جميعاً، ولا يعلم أحد ما الذي ينتظرنا ناصر، لا يعلم أحد ما الذي سيحدث.
وللتو أحس باقر برعشة تسري من جهاز الاتصال عابرة أصابعه فذراعه بالغة حتى القلب، محطمة حاجز الأمام معكرة بحيرة الطمأنينة، وفي أذنه رنين صوت راعش لأخت حبيبة غالية تردد: لا يعلم أحد ما الذي ينتظرنا، لا يعلم أحد ما الذي سيحدث.
الفصل الثالث
فرح فاطمة جعلها تنسى خوفها، والفرح ينسي. يمسح الأحزان، الأوجاع، المخاوف كلها ليضع جناحين للإنسان يحلق بهما عالياً في السماء. فاطمة حلقت طائرة إلى البصرة، جناحاها أسلاك الهاتف الذي دقت أرقامه حالما أنهى باقر مكالمته. في البصرة أم تموت شوقاً لأخبار ابنها، تصلي الليل والنهار علها تسمع صوته، تبكي الدموع السخان توقاً للاطمئنان عليه. فاطمة تعلم ذلك فلا تضيع لحظة واحدة.
ـ الله بالخير.. أمي!! السندباد يقبل وجنتيك... يلثم جبينك.
وينفرط عقد دموع غزار من مقلتي الأم وهي تسمع ابنتها من الطرف الآخر للخط، ثم تشرع بالكلام لكنها تغص، فتتابع فاطمة. اطمئني. هو بخير.
ـ حقاً هو بخير؟ صحته، كل شيء عنده على ما يرام؟ رددت الأم وقد ابتلعت غصتها وشربت دموعها، فتابعت الابنة:
ـ حقاً وصدقاً!! صحته، عمله، أحواله كلها على خير ما يرام. اطمئني.
ـ الحمد لله!! ردت الأم وهي تتنفس الصعداء، كأنما انزاح عن كاهلها جبل عال.
آه!! فقط لو يسمعني صوته... لو يحدثني إلى هنا.
ـ هو لا يجرؤ.. ثمة مخاطر. أنت تعلمين.
الأم تعلم بالطبع. هناك دائماً من يستمع لكل نأمة وحركة. الحيطان لها آذان فكيف بأجهزة الهاتف؟ لكنها تتحرق شوقاً لسماع صوت سندبادها الذي امتطى بساط ريح وطار. منذ أحد عشر عاماً وهو يطير من جزيرة إلى جزيرة، ومن هند إلى سند. حتى صوته، ذلك الصوت الأبح الذي تميزه من ألف صوت، لم تسمع رنينه يتغلغل إلى أعماقها، يدق شغاف قلبها كما تدق الأصابع الصنج فتنطلق أنغام موسيقية في جسدها كله، وتطرب، تنتشي كما لم تنتش منذ سنين.
ـ وأين هو الآن؟ متى يأتي؟ سألتها وهي تلملم شتات تفكيرها، شتات صوره في ذهنها علها ترى أمامها الفتى الناحل الأمرد الأسمر الذي كان ناصر ذات يوم.
ـ هذا وحده ما لا يعرفه إلا الله. إنه سندباد يا أمي وهل يفشي السندباد سر مكانه؟ ربما في الأردن... في الجزائر... في لبنان... من يدري؟ متى يأتي؟ أيضاً لا يعلم إلا الله. على كل حال افرحي واسعدي. هو في أمان فقط يريد الاطمئنان!!.
ـ الاطمئنان!؟ أين يبيعونه يا ابنتي، والعالم كله تنين هائل يفتح فمه فوهة جحيم في وجهك!؟
فاطمة تشعر الشعور نفسه. العالم تنين هائل تقدح عيناه شرراً وينفث فمه ناراً وهو ينحدر إليك من جبل عالٍ لا تدري متى يصل إليه فيحرق الأخضر واليابس من حولك. كان الخوف قد أمسك بها مذ سمعت نبأ الرهائن "أسمعت؟" ذهبت إلى جارتها تسألها وليس من أحد حولها تسأله. "سمعت"، "سمعت، ولست خائفة"؟ "ولماذا أخاف؟" "لا أدري. لكنني أشعر كأنني سلحفاة نزعوا عنها قوقعتها" وضحكت الجارة "إن كانوا هم غير خائفين"، وأشارت بيدها إلى الأعلى والبعيد... "فلماذا نحن نخاف" "لا أدري" ردت فاطمة وهي تتنهد "بوجود الرهائن كنت أشعر أن درعاً من زرد الحديد يقي جسدي طعنات الرماح، ترساً يصد عني ضربات السيوف، أما الآن فقد انكشفنا، لم يعد ثمة غطاء".
"فاطمة، لا تفكري عن الحكومة. الحكومة تفكر عنك وهي أفهم مني ومنك."
لكن فاطمة لا تقتنع. كلام جارتها سراب لم يعطها الماء الذي يروي الظمأ، فعادت إلى المنزل وهي تفكر "لو يأتي عبد المحسن فيشرح لي". كلام عبد المحسن يقنعها. زوجها يعلم جيداً كيف يضع النقاط على الحروف، لكنه بعيد. منذ أشهر ذهبت وحدته إلى الجنوب. هو في الحرس الجمهوري، والحرس الجمهوري لم يدخل الكويت، ظل الطوق الآمن الذي يحزم خصر العراق، الترس الذي يقيه الضربات وقد دخلت رأس الحربة إلى الكويت. كل أسبوعين.. كل ثلاثة يأتي. قوافل من الجنود والضباط يأتون إلى عائلاتهم بانتظام. دور عادل ونظام دقيق يحكم مبيت الرجال الذين هم بحاجة إلى نسائهم مثلما نساؤهم بحاجة إليهم. يأتي عبد المحسن فتستمد منه فاطمة القوة والإقدام، الثبات والمعنويات!! كان قد مضى على مجيئه آخر مرة ثمانية عشرة يوماً، وكانت كلها شوقاً لمجيئه. "ربما يجيء الليلة، ربما غداً" كانت تفكر حين رن الهاتف وجاءها صوت ناصر، وللتو نسيت عبد المحسن، نسيت الخوف، لتظل صورة واحدة ملء عينيها، صوت واحد ملء أذنيها وفرح كبير ملء قلبها.
منذ أشهر لم تكن قد سمعت صوته. هو هكذا!! أحياناً يتصل كل شهر ثم ينقطع فلا تسمع صوته طيلة شهور. أهو الحذر؟ الاحتياط؟ فاطمة لا تدري. كل ما تدريه أنها تشعر بشوق دائم إليه. هو أخوها الذي تحبه.. تعجب به مذ كانا صغيرين. كان يزيدها بعامين لكن يخيل إليها أنه أقوى منها بضعفين. "ألهذا قال سبحانه وللذكر مثل حظ الأنثيين؟" لقد كان يسبقها دائماً في الجري، يغلبها في اللعب، يصرعها في العراك، بل كان يصرع الصبية الأكبر منه سناً وجسداً، وفي المدرسة كان الأول دائماً في صفه، فيعينه المعلم عريفاً للصف وأحياناً عريفاً للمدرسة، يرفع العلم ويقود رتل التلامذة إلى الصفوف!
فاطمة تذكره جيداً وهما يلعبان معاً، في المنزل، في الساحة، في الشارع. تذكر جيداً كيف كانا يذهبان إلى بساتين النخيل على ضفاف العشار... يلتقطان الرطب الذي سقط من عل، يقطفان الشفلّح ذا البطون القرمزية المتوهجة ثم يلتهمانه بتلذذ، يجمعان "شيخ اسم الله" تلك النبتة القصبية الصغيرة التي تحوي في داخلها ثمرة غريبة قوامها خيوط كالحرير طرية وذات طعم خاص لا يناظره طعم ثمرة أخرى. ذات مرة، تتذكر فاطمة، وهي ما تزال جالسة بقرب الهاتف، كانا معاً على ضفة أحد الجداول تلك التي تأتي من الأهوار لتصب في شط العرب. رأت ثمرة مخضرة مصفرة تغري بالقطاف، قطفتها وكادت تضعها في فمها حين أسرع ناصر يضرب يدها ضربة أسقطت الثمرة بعيداً في التراب. "ويلك!! هذه بطوش." "وما البطوش؟" سألته فاطمة، "هي سامة فكيف تأكلينها؟" وأنفذها ناصر من سم ربما أودى بها إلى الموت. طوال صباهما كان ناصر أخاها وصديقها، رفيقها وحارسها القديم الأمين، فمن يجرؤ من الصبية على التحرش بها؟ إذن، له الويل والثبور وعظائم الأمور. ناصر، منذ طفولته، لا يعرف الاعتدال... هو متطرف دائماً، مغالٍ دائماً، إن كره فحتى الموت وإن أحب فحتى الموت. لا يعرف الحلول الوسط أبداً، ولا تملك فاطمة إلا أن تحزن، ذلك نفسه ما جعله يعاني الأمرين.. يلاحق من رجال الأمن.. يزج في السجون وأخيراً يفر سندباداً على بساط ريح ينتقل في بلاد الله الواسعة حيث لا مقام ولا مستقر.
رن الهاتف فأسرعت فاطمة ترد:
ـ رقية!! أهلاًَ بك!! ثم روت لها مكالمة أخيهما حرفاً بحرف، فهتفت رقية فرحاً: الحمد لله!! أثلجت صدري!!
كانت رقية هي الأخت الصغرى وكانت قد تزوجت قريباً لها من "العمارة"، مهندس تكنولوجيا في أحد المصانع هناك. لكن قبل أشهر فقط رآه الوزير فأعجب به "سأنقلك إلى بغداد" وانتقلت رقية إلى بغداد وقد أصبح زوجها مدير مكتب الوزير.
ـ ألم تنقلي له أخباري؟ سألتها رقية وقد تشربت أخبار أخيها حتى الثمالة.
ـ بالطبع.
ـ أقلت له أن يتصل بي؟
ـ لا، هذا ما لم أذكره. في المرة القادمة إن شاء الله.
وبدت رقية عاتبة:
ـ كيف تنسين؟ أنا مشوقة لصوته. هل أعطاك هاتفه؟
ـ وهل لديه هاتف، هو السندباد الطيار؟
وكان السندباد الطيار يستلقي على بساطه بعد أن دك لبانة دكاً. كانا طوال الليل قد ظلا يمارسان الحب. مع ذلك كانت رغبته ما تزال تتأجج. لكن ما أثار عجبه أنها هي نفسها كانت، مثله، رغبة تتأجج. فتح عينيه تعجباً وقد بدا أنه على وشك الاستنزاف، فضحكت لبانة:
ـ ثلاث لا يشبعن من ثلاثة: أرض من مطر، وعين من نظر، وأنثى من ذكر. ولم يملك باقر إلا أن يبتسم "رحم الله المثلة، كما تقول العامة، لم تدع شيئاً إلا قالته. هاهي ذي أنثى لا تشبع". لكن العمل يقتضي منها الذهاب، فتذهب لبانة إلى مصرفها ليذهب هو إلى أوكار عمان وجحورها. ثمة منظمات في عمان تحاذر أن تظهر إلى العلن. عمان، منذ أيلول الأسود، باتت محظورة على الأنشطة والمنظمات. كل من شارك في خطف الطائرات، كل من طرح شعار إسقاط النظام، كل من قاتل جيش الكفاف الحمر والعقل الميالة كان الملك قد حرم عليه تراب الأردن. مع ذلك كانوا يجيئون، وكانوا ينشطون. جماهيرهم الفلسطينية معظمها يحتشد في الأردن، قواعدهم كلها منطلقها الأردن، فكيف تكون قيادة بلا قواعد؟ وكيف تكون زعامة بلا جماهير؟ عصفورين بحجر واحد أراد باقر أن يضرب بمجيئه إلى عمان: يستطلع أخبار بغداد، ويتصل بقيادة الجبهة في عمان.
في أحد الأوكار وجد ضالته. أوصل الرسائل، ثم انتظر أن يأخذ رسائل. خرج إلى الشوارع، تجول في الأسواق وهو يتنفس الصعداء كأنما وجد له متنفساً.
كانت الإذاعات كلها تلعلع، وكان الناس كلهم يناقشون: إطلاق سراح الرهائن، صحيح أم خطأ؟ بعضهم متحمس كل الحماسة للإجراء، مكبر لما فيه من دلالات.
بعضهم الآخر لائم مقرع.
ـ أهم مجانين؟ في يدهم وسيلة للحماية ويلقونها أرضاً؟ درع واقٍ ويتخلون عنه؟ وكان يخالط لومهم خوف.
ـ الضربة آتية. هؤلاء الخنازير الأنجاس لسوف يدمرون العراق.
كان الأردن قد ظل المنفذ الوحيد للعراق. وكان الملك حسين لا يفتأ كالمكوك يطير إلى بغداد ويعود من بغداد، يتوسط، يشاور، ينصح، يجادل. تسمعه بغداد أحياناً ولا تسمعه أكثر الأحيان. مع ذلك، ظل الملك طويل البال، واسع الصدر. إناء كبير لا يسعه إلا أن يحتوي الآنية الأخرى. الحظر، الحصار، التطويق، العزل، كلها كان قد عرف بها الملك مسبقاً وحذر منها رئيس بغداد. حرص الملك شديد على العراق. كيف لا، والعراق والأردن أخوان توأمان..؟ ذات يوم جاء فيصل إلى الأول وعبد الله إلى الثاني، وفيصل وعبد الله أخوان شقيقان. مملكتان صار لهما فصارتا، مثلهما، نصفين متكاملين وأختين شقيقتين!! صحيح، المملكة الأولى ذهبت. قتل عبد الكريم قاسم ملكها وولي عهدها، لكن العراق يظل العراق، الأحب والأغلى على قلب الحسين، ففتح حدوده له حين أغلقت كل الحدود في وجهه، وأقام معه الجسور حين قطعت كل الجسور. الناس يأتون ويذهبون، البضائع تصل إلى الأردن وتنتقل من الأردن، السيارات، القاطرات قوافل متصلة أولها في بغداد وآخرها في عمان فكيف لا يجد متنفساً له باقر؟
ـ عراقي آغاتي؟ يسأل باقر أحدهم وقد رآه يتبضع من كل ما هب ودب.
ـ إي.. بويا. يرد عليه المتبضع ثم يبدأ حديثاً طويلاً يحاول فيه باقر أن يعرف كل شيء عن الوطن من الداخل. "إيه!! أيها الوطن!! أيها المنغرس في القلب نخلة من نخيل البصرة!! جذورها تمتد إلى الأعماق، فلا يستطيع اقتلاعها أحد. إيه أيها الوطن!! يا دمعة في العين لا ترقأ وناراً في القلب لا تطفأ!! متى أحتضنك أيها الوطن بذراعي؟ متى ألثمك بشفتي؟ فتخمد نار الأشواق وينطفئ أتون الحسرات!!"
على الرصيف يتقرب باقر من امرأة تلتفع بعباءة سوداء هي نفسها العباءة العراقية التي طالما أحبها وغنى لها "يامّ العباية... حلوة عباتج... جمالك آية.. حلوة صفاتج".
يلقي عليها سؤالاً فترد المرأة دون وجل أو ارتياب.
ـ أجل، أنا ماجدة من ماجدات العراق.
وتحدثه الماجدة عن بغداد، التي تعلم أنها على حافة فوهة قد تنفتح في أية لحظة، لتخرج منها حمم البركان. مع ذلك تقول الماجدة:
ـ بغداد لا تخاف، وأكبر دليل إطلاقها سراح الرهائن.
ـ لكن أليس هذا خطأ؟ يسأل باقر وهو على قناعة أن ذلك خطأ قاتل.
ـ خطأ.. صواب، نحن لا نناقش القيادة. هي تعرف أكثر من أي أحد، وتحسن التصرف أكثر من أي أحد.
ـ لكن القيادة فرد، والفرد قد يخطئ ويصيب.
وتسرع الماجدة في الابتعاد بعد أن سلقته بنظرة خاصة كل ما فيها يقول:
"تريد أن تورطني.؟ لا. أنا أريد العودة إلى العراق".
باقر يود أن يجد من يحدثه بصراحة، يشكو له هموم العراق، يعرف منه دخائل العراق، لكن دائماً يصطدم. حاجز الخوف يقف في وجهه.
***
ويتلفت حول: "أهناك مخبرون؟ أيسمعنا أحد؟ أيرانا أحد؟" شبح الأمن يطارد الجميع، الرعب من المخبرين، يعشش في قلوب الجميع، ولا يحصل باقر على شيء مما يريد.
سيارة تحمل لوحة البصرة جذبت ناظري باقر حتى تسمر.
ـ الله بالخير!؟ بادره باقر مقترباً منه. الأخ من البصرة!!
ـ إي... مرحوم الوالدين. آكوشي؟
ـ لا، ماكو. يرد باقر وقد دغدغت أذنيه الكلمة النقيضة: آكو، ثم يردف: فقط أردت الحديث وإياك!! أنا الآخر من البصرة.
ـ حق!! أنت من البصرة!؟ وتبدأ سلامات، تحيات، كأنما يعرف واحدهما الآخر منذ سنين.
ودون خوف يبدأ البصراوي حديثه. يجيبه على كل ما يريد، يغوص معه في بحر العراق حتى أعمق الأعماق. أخيراً يسأل الرجل سؤالاً، ويكتشف باقر أن الرجل يعرف أباه.
ـ أبوك عبد الوهاب التنكجي؟ رحمة الله عليه. صديقي كان. مزاريب بيتي كلها عملتها عنده. بيده صنعها لي. رحمة الله عليه! كان رجلاً زين.
ويشرد باقر إلى البعيد، إلى الرجل الزين الذي كان أباه. ماهراً في صنعته كان، لكن منافسيه كثر. لا يقف في مكانه. يريد أن يطور نفسه ما استطاع. يعلم أن هناك دائماً أحسن، وأن عليه أن يسعى دائماً إلى ذلك الأحسن. لهذا، ربما، انتسب إلى حزب العمال البروليتاري، وكله أمل أن يتسلم ذلك الحزب السلطة فيرفع من شأن العمال والبروليتاريا. باقر لا يذكر بيتهم إلا وهو مقر لنشاط العمال والبروليتاريا. اجتماعات سرية تعقد في غرفه الخلفية، مناشير تنطلق منه، نشرات تأتي إليه، والرفاق يحولونه إلى خلية نحل لا تفتأ تعمل لجني العسل.
الكل من حوله مثل أبيه، أممي يتجاوز القوميات، ماركسي يتجاوز الاشتراكيات ثم يحلم بديكتاتورية البروليتارية التي تنتقم للفقراء والمسحوقين. ولا يجد باقر نفسه إلا وهو يحمل الأحلام نفسها، يبشر للأفكار ذاتها، ساعي بريد ينقل للرفاق ما يصل إلى خلية النحل. كان في الثامنة، صغيراً لا يشك أحد فيه، حين أرسله أبوه، عبد الوهاب التنكجي في أول مهمة، ولشد ما أفرحه نجاحه في تنفيذ تلك المهمة. "ولد زين" قال له أبوه "شاطر حسن، لا يخيب فيك رجاء" وكان الأب غالباً ما يرسل الشاطر حسن بمهام ليست في حي القشلة وحسب ولا في سوق التنكجية وحسب، بل إلى سوق الهنود، سوق المقام، حي الخندق، وبيوت على ضفاف العشار وشط العرب نفسه.
كان الرجل شعلة من الحماس، وكان عمله في السوق لا يأخذ إلا القليل من وقته، فالتنكجية كثر والشارون قلة، ولعل ذلك ما كان يدفعه إلى البحث الدائم عما يملأ وقته. كان يلعب الدومينو. وكان مصيره هو وجبار يتوقف على الدومينو إن انتصر أبوه أعطاهما فلوساً، وإن خسر نهرهما "ابعدا عني.. اللعنة عليكما". كان جبار أخاه الكبير وكانا يحبان الذهاب إلى السينما، لكن السينما بحاجة إلى فلوس وهذه لا تخرج من جيب أبيه إلا إذا كان منتشياً نشوة النصر، فكانا كثيراً ما يركعان ويصليان لله متشفعين بعلي والحسين أن ينصر أباهما، أو عادا بخفي حنين.
البصراوي يتذكر أباه جيداً.. الرجل.. الزين... لعله من رفاقه. باقر لا يعرفه لكن البصراوي يعرفه صغيراً ربما لا يتجاوز العاشرة.
ـ ألم تجرني ذات يوم جراً من يدي كي أشتري منك؟
وتذكر باقر. ذلك الصباح، كان البيت بلا مصروف. وكانت الأم تنتظر بضعة فلوس تشتري بها طعام الغداء. وكان المؤذن قد أذن الظهر دون أن يطرق شارٍ واحد دكانهم المليء بالتنك ومصنوعات التنك، ولم يجد باقر بداً من أن يتحول إلى خنفساء يلح ويلح إلى أن يوقع شارياً فيشتري بما يسدون به الرمق.
وسر باقر بالذكرى، سر بالرجل البصراوي وهو يعيد إلى أنفه رائحة البصرة.. عبق بساتينها وأريجها.
ـ تفضل معي... نتغد. دعاه باقر وهو يفترض نفسه مضيفاً في عمان لضيف قادم من البصرة.
ـ أشكرك يابن أخي. أريد العودة. ألم تسمع الأخبار؟
2017-07-09, 06:40 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» عضو من عائلة أبو هاشم بمصر
2017-07-08, 18:28 من طرف Hany
» مربعانية الشتاء
2017-07-08, 08:59 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» ونذرت شعري للمسرى
2017-07-08, 08:57 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» عايد أبو فردة يشهر كتابه «ديوان السامر الفلسطيني»
2017-07-08, 08:54 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» "وادي الكلاب".. خربة لا ترى النور ---- قرية الصرة
2017-07-08, 08:26 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» طموح مواطنو قرية الصرة في دورا - الخليل
2017-07-08, 08:20 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» دعاء لشهر ذي الحجة 1437
2016-09-03, 20:29 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» صورة وجهاء عائلة أبو هاشم
2016-09-03, 19:53 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» اثناء العمل ... فارس طه ابو هاشم
2016-09-03, 19:14 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم