ـ القائمة بالأعمال الأمريكية قالت له ذلك؟ سأل باقر وكله استغراب لما قالته غلاديس لصدام.
ـ أجل، بالحرف الواحد. قالت له: "الخلافات بينكم وبين الكويت داخلية لا علاقة لنا بها ولن نتدخل فيها".
ـ ألم أقل لكم؟ هتف باقر شبه واثب. صدام أمريكي. يأتمر بأمرهم. لا يفعل شيئاً إلا بموافقتهم. أسمعتم بآذانكم؟ هم يطلقون يده ضد الكويت كما أطلقوها من قبل ضد إيران!!!
ـ مهلاً مهلاً!! تدخل نمر مقاطعاً. أخشى أن تكون قد أسأت الفهم.
ـ كيف!؟ أنا أسيء الفهم!!
ـ بالطبع. الأمر غير ذلك، بل هو أخطر بكثير من ذلك.
ـ اشرح لي بربك. أنا لم أفهم.
ـ ألا يمكن أن يكون بداية مؤامرة؟
ـ مؤامرة!! ردد باقر ساخراً ثم ملتفتاً إلى أبي الليل.... اسمع أبا الليل.. أمريكا تتآمر على أمريكا!!
ـ لا، أنا أخالفك. باقر!! قاطعه نمر متحمساً للتدخل. أمريكا تتآمر على صدام. تقدم له طعماً، تنصب له شركاً!!
ـ لا تضحكني يا رجل!! طعم. شرك.. ما الذي تقوله، نمر؟ إن أنت إلا غر سياسة، جاهل أبسط بديهياتها، ومن العبث الحديث معك.
ـ طول بالك باقر. تدخل أبو الليل مهدئاً. الحوار أخذ وعطاء.
ـ لا، لا، ليس لي رغبة في حوار كهذا. قال وهو يتململ في مكانه ثم يلتفت حوله، بل ليس لي رغبة في البقاء هنا. الجو خانق. قاتل. اسمحوا لي. سأذهب إلى بيروت.
ـ أذهب معك إذن. أيده يسار وهو يهب على عجل.
الطريق إلى بيروت طويلة، تصعد جبالاً، تهبط ودياناً، تمر بمنعطفات حادة وتصطدم بحواجز جند كلها توقف سيارة الجيب شبه العسكرية، تسأل عن الهوية لكن لا أحد يعترض طريق باقر ويسار. أيام الحرب الأهلية ولت، القتل على الهوية مضى وانقضى، لا قناصة ولا حواجز طيارة، هناك آثار حرب: سيارات محترقة، أبنية متهدمة، جدران أشبه بالغرابيل، أشجار مقتلعة، حفر متناثرة هنا وهناك ترفع السيارة عالياً لتحطها واطئاً. شوارع صوفر، عاليه، الحازمية كلها مقفرة معتمة، فظلام الحرب الأهلية كان ما يزال يخيم على بلد النور والإشعاع.
ـ تعلم، باقر؟ أنت رجل عبقري. بدأ يسار وقد أمضه صمت السيارة الطويل، لم يجبه باقر بل اكتفى بالنظر طويلاً إليه. حينذاك استأنف وهو يشير إلى رأس صاحبه، دماغك هذا لا يخرج إلا بالأفكار العبقرية.
ـ أنسيت أنني مهندس؟ رد باقر ضاحكاً.
ـ كيف أنسى والمخترعون كلهم مهندسون؟ هم يهندسون العالم، يهندسون الحياة، يهندسون المستقبل فكيف لا تهندس لنا مخارج من الحزن والسأم؟ ولم يملك باقر إلا أن يبتسم. هو يعلم أن اقتراحه بالذهاب إلى بيروت جاء إلى يسار كما يجيء الفرج بعد الشدة. أكثر من شهر كان قد مضى عليه دون أن يغادر المعسكر. حالة الاستنفار، الاشتباك الدائم مع العدو، التدريب، مهمات الاستطلاع كلها كانت قد شغلت الخلية طويلاً، ولم يكن باقر يشعر بالحاجة إلى مغادرة. لكن يساراً كان يشعر.. أنفاسه في صدره تنكتم والحياة بكل ما فيها تصبح ثقيلة الوطأة إن لم يغادر إلى مرابع حلب أو أعشاش الطرب في دمشق وبيروت، هناك يأخذ قسطاً من الراحة، يزيل بعض ذلك التوتر الذي يشحن جسده كله ثم يعود، لكن أين تراه يذهب باقر؟
منذ تسع سنوات كان العراق كله قد تحول إلى عسكر وهو حرامي، إن وضعوا يدهم عليه ذهب مع الريح، فكيف لا يغادر باقر العراق؟ وهكذا، في ليلة بلا ضياء، لبس اسماً غير اسمه وهوية غير هويته ثم مضى إلى نقطة قريبة من الحدود. هناك ترجل من السيارة، وتحت جنح الظلام بدأ رحلته مشياً على الأقدام، دليله أوصله إلى ثغرة، عبرها شق طريقه إلى بلاد أخرى حيث لا هي عسكر ولا هو حرامي. ودون أن يشعر، ابتسم باقر وقد توقفت السيارة أمام حاجز عسكري، "العسكر في كل مكان، وحيثما تذهب أنت الحرامي..."
ـ هه!! أراك تبتسم؟ أين شردت؟ سأله يسار وقد غادرت السيارة الحاجز العسكري.
ـ لا، لا شيء. فقط قل لي يسار، لماذا أراك دائماً سئماً قلقاً؟
ـ لا أدري. أجابه يسار وكأنما يتعمد الاقتضاب.
ـ كيف لا تدري وقد عرفتك أنموذجاً للحماسة والفداء؟
ـ أجل، كنت كذلك، بل حين انخرطت في العمل الفدائي كنت على استعداد لأن أفجر نفسي، أقوم بأية عملية انتحارية. لكن شيئاً فشيئاً بدأ حماسي يفتر، ربما بسبب ما رأيته خلال هذه السنوات السبع العجاف: تآمر يحيط بك من كل مكان، جشع وطمع، عمالة وخيانة... فكيف لا يفل سيفك ويتثلم؟
ـ آ!! الآن فهمت، لماذا لم تتحمس لاقتراحي حول القلعة؟
ـ وكيف أتحمس وأنا أرى بأم عيني الشعارات تتحول إلى قميص عثمان؟ غاياتنا النبيلة تصبح وسائل لتحقيق المكاسب والمغانم؟ بل الأخطر من ذلك، بعض قياديينا لم يعودوا يرون في الكفاح المسلح إلا ورقة يلعبون بها على طاولة المفاوضات والسياسة.
ـ يعني، أنت متشائم؟
ـ متشائم!! قل يائس، يا رجل.
ـ كيف تيئس يسار، والانتفاضة تدوِّخ إسرائيل؟
هنيهة من الزمن ظل يسار صامتاً لا يجيب. كان صوت المحرك لا يكاد يسمع وسيارة الجيب شبه العسكرية تنحدر سفح الجبل مع متعرجات الطريق المتلوية تلوي أفعى، وكانت الأشرفية هناك في الأسفل، ترقد ساكنة تلفها العتمة والتوجس. في فلسطين عتمة وتوجس أيضاً. الانتفاضة هناك تستقطب اهتمام العالم كله، في كل صباح تتحول فلسطين أمام عينيه إلى أطفال صغار يخرجون إلى الشوارع وسلاحهم الحجارة، وإلى نساء عزلاوت يواجهن جند إسرائيل، يتحدين جند إسرائيل، أعيناً تقاوم المخارز دون أن يرف لها جفن.
ـ حتى هذه الانتفاضة يتآمرون عليها. رد يسار أخيراً وهو يزفر من عمق الألم، أنا يائس، الكفاح المسلح انحرف عن طريقه الأساسي. قادته صاروا مثل حكامنا العرب. كلهم أناني، نرجسي، لا يفكر إلا بنفسه ومصلحته.
ـ قف!! صاح جندي بالسائق الذي كان ينوي عبور حاجز فرن الشباك دون أن يتوقف. بالمنعكس الشرطي، كبح السائق سيارته فجأة، فأوشك رأس باقر أن يصطدم بالزجاج. سباب مقذع انطلق من داخله لكنه أوقفه عند شفتيه. كان يريد أن يسب الجند والحواجز، السيارات والسائقين، لكنه كظم غيظه آخر لحظة. هم يمرون دائماً بذلك الحاجز، السائق يعرف الجند والجند يعرفون السائق، فيكتفون بالتبسم والإشارة إليه بالعبور، لكن على حين غرة، يظهر لك جندي يقطب جبينه في وجهك ويصوب بندقيته إلى صدرك ليقول لك "قف. انزل". وأحياناً "ارفع يديك". أهي مسألة مزاج، أم مبدأ؟ باقر يحار دائماً في أمر العسكر ولا يفهمهم. مذ بدأ اشتباكاته معهم في بغداد، يحار فيهم ولا يفهمهم. دخل عسكري الحاجز برأسه داخل سيارة الجيب عابس الوجه قمطريراً، تفحص الراكبين والسائق بنظرة كلها لوم وتقريع وكأنه جنرال يتفحص جنده العائدين بأذيال الهزيمة. طلب الهويات. ثم طلب المهمة، بوجهه القمطرير نفسه ونظرته اللائمة المقرعة نفسها. أخيراً، أشاح بوجهه معطياً بطرف إصبعه إشارة الحركة للسائق.
ـ اللعنة على والديك!! غمغم باقر وقد خرجت السيارة من خناق الحاجز، ملتفتاً برأسه إلى الجندي الذي كان قد انشغل بسيارة جديدة.
ـ بل ووالد والديه!! تابع يسار هازاً رأسه ضاحكاً ضحكة الكراهية والحقد.
ـ بربك، يسار، قل لي. دولنا العربية مع العمل الفدائي أم ضده؟ سأل باقر وهو يشير إلى الوراء، بكثير من الامتعاض.
ـ هم معه وضده. أجاب يسار بنبرته الساخرة المعهودة.
ـ كيف؟ أنا لا أفهم.
ـ على طريقة فيروز: "تعا ولا تجي". أو سائق السيارة الذي يشير إلى اليسار، ويسير إلى اليمين.
ـ هذه نكتة، لكنها يبدو أنها أكثر صحة من أية حقيقة جادة.
ـ بالطبع. وإلا كيف تجد الشيء وضده؟ هنا في لبنان كلهم مع العمل الفدائي لكن، على أرضهم كلهم ضده.
ـ صحيح، الآن فهمت. أنظمة كلها غريبة عجيبة. تقول شيئاً وتفعل شيئاً. باطن وظاهر. سياسة معلنة، وسياسة خفية. ودخ أيها الشعب العربي الأبي!! قال باقر جملته الأخيرة بنوع من الصياح وكأنه يخطب في حشد من الجماهير. لكن الجماهير لم تسمع ولم تصفق فتابع: بل شعبك العربي الأبي دائخ أصلاً. الإنكليز، الفرنسيون، الأمريكان، كلهم دوخوه، فرادى ومجتمعين، بل حتى أصحابنا السوفييت دوخوه، فما بالك بحكامه الأشاوس؟
ـ هل عرفت الآن سبب يأسي؟ ثمة مؤامرة كبيرة.
لكن لعلعة رصاص قريبة قطعت كلام يسار، فيما أجفل السائق كابحاً سيارته خافضاً رأسه، وكأنما الرصاص يستهدف رأسه.
ـ اللعنة!! بيروت ما تزال خطيرة!! غمغم السائق الفتى وهو يلتفت يمنة ويسرة، متوجساً الشر من اليمين واليسار.
ـ خطرة!؟ ماذا إذن لو كنت هنا في الثمانينات؟ رد يسار وهو يهز رأسه استخفافاً بسائقه الغر. اثنتان وسبعون منظمة وجبهة كانت تقاتل في بيروت.
ـ تلك أيام حرب، لكن الآن، وقد تمت المصالحة، لماذا هذا الرصاص؟
ـ هو الأثر الباقي، تدخل باقر شبه ضاحك، أم تريد لحريق هائل أن يخمد بطرفة عين؟ الحريق إن أطفأته يبقى له أثر: دخان.. جمر تحت الرماد.. حرارة كامنة تظهر هنا... تظهر هناك وهذا ما يدعونه الأثر الباقي.
ـ يا إلهي!! متى يعود الأمن والسلام إلى لبنان؟ سأل السائق الفتى بنبرة كلها كره للعنف وسفك الدماء.
ـ حين لا تبقى في الشوارع ميليشيا واحدة ولا بيد أي لبناني بندقية واحدة.
ـ أجل، أعلم. غمغم السائق من جديد ملوحاً برأسه إلى الأعلى والأسفل، بعدئذٍ بدا وكأنه يستفسر بعينيه لكن دون أن يسأل.
ـ إلى الحمراء. للتو رد يسار الهارب من سأمه ويأسه، وقد أدرك مغزى استفساره. لم تكن المدينة الصاخبة أيام زمان قد عادت إلى صخبها. ملاهيها، مرابعها، لم تكن قد بعثت للحياة من جديد، لكن كانت ثمة خانات، وأوكار لهو تجد طريقها بشكل أو بآخر للحياة، وكان يسار كلما سنحت له الفرصة يؤم واحدة منها، يسمع أغنية، يشهد رقصاً، يجرع خمراً فينسى كل ما ينخر روحه من سأم ويأس.
شبه معتمة كانت حانة "اللوتس". الأضواء الحمراء الخافتة، الستائر المسدلة، الجدران المصمتة كلها كانت قد تكيفت مع ظلام الحرب، رعب الحرب. يسار يعرفها جيداً مذ جاء إلى بيروت وبيروت أتون من نار، بحث في ليالي الفراغ عما يسد الفراغ، وكانت حانة "اللوتس" الأقرب إلى موقع الجبهة، والأقربون أولى بالمعروف. في خضم المعارك وتحت أزيز الرصاص كان يجيء إلى الحانة وكانت الحانة تعمل، كأنما هي غير معنية بحروب الناس وجنونهم. في القبو تحت الأرضي كانت تلطأ، وكانت الأبنية من حولها كلها تحمل آثار الرصاص وشظايا الحرب، ما عداها هي. متطامنة، مصمتة الجدران، خافتة الأضواء ظلت تعمل. صاحبها يعرف دائماً كيف يأتي بأصناف المشروبات وأنواع الفتيات. زادها متوفر دائماً وكهرباؤها لا تنقطع أبداً. جسور مودة قامت بين يسار والحانة، ثم بين هذه وباقر، فهما لا يجدان راحتهما إلا فيها.
ـ من زمان هذا القمر ما بان، بادرهما أبو جوني ناظراً إلى يسار ثم إلى باقر. يا مرحبا!! يا مرحبا!! تابع ترحيبه وهو يشد على يد كل منهما فيما أسرع نادل يهيئ لهما طاولة قريبة من "الحلبة".
ـ مرحباً بك أبا جوني... وألف سلام، رد يسار آخذاً صاحب الحانة بالأحضان متلفتاً حوله. كيف الشغل؟
ـ ألا ترى؟ طاولات معدودات كل ليلة، لكن الشكر للرب، يسوع في الأعالي. وضحك باقر. هذه عبارة أبي جوني، الشكر للرب، يسوع في الأعالي. لا يفتأ يكررها. في السراء... في الضراء، يكررها ويقنع. أليست القناعة كنزاً لا يفنى؟
ـ سيتحسن.. الشغل سيتحسن. مع عودة الأمن والسلام ستخرج الفئران من أوكارها أبا جوني، اطمئن. داعبه يسار ضاحكاً.
الحرب الطويلة علمت أبا جوني ألا يطمئن... بل طوال خمسة عشر عاماً كان يحاول ذلك. لكن كل مرة كانت تأتيه ضربة على حين غرة فينقلب على قفاه، أو يغوص في الوحل ولا يخلص نفسه إلا بشق النفس. جزيرة في بحر كانت حانة اللوتس. الأمواج تلطم شطآنها، العواصف تزعزع أركانها، فكيف يطمئن؟ ذات مرة داهمته عصبة مسلحين ناهبة كل ما لديه من مشروبات. في مرة أخرى أخذوا كل ما لديه من نقود وفي مرة ثالثة خطفوا كل من في الحانة من نساء. "الإنسان غريب" قال صاحب الحانة ليسار وذات مرة. "تراه في السلم والطمأنينة فتحسبه ملاكاً، لكن ما إن يحمل السلاح ويدخل حالة الحرب حتى يتحول إلى شيطان بل أسوأ ألف مرة من الشيطان". مقولته تلك هي الناموس الذي لا يحسب حساباً لسواه، وبسببها، هو دائماً حذر، مرتاب. كل من يأتي إلى الحانة متهم حتى يثبت براءته، وأخو أخته من يستطيع لدى أبي جوني إثبات تلك البراءة.
كانت حانة الشراب البسيطة قد تحولت إلى ما يشبه الملهى الصغير، ففي غياب الخيول تشد على الكلاب السروج. أبو جوني يعرف المثل جيداً ويعرف ما تريده بيروت رغم كل ما فيها من حرب ودمار هي المرأة المدمنة على الشراب، هل تستطيع العيش بلا شراب؟ المعتادة على اللهو والطرب، هل تطيق العيش بلا لهو وطرب؟.. وهكذا، شيئاً فشيئاً باتت "اللوتس" تحتضن الراقصين والراقصات، المطربين والمطربات.
جوقة موسيقية كانت تعزف موسيقى "الواحدة ونص"، فيما كانت راقصة بليدة سمينة العجيزة بارزة البطن ترقص "الواحدة وثلاثة أرباع" فلم يملك يسار إلا أن يضحك، لاكزاً صاحب الحانة في خاصرته:
ـ ألم تجد خيراً من هذه البقرة الهولندية ترقص؟
ـ لم أجد أرخص منها، والحال من بعضه كما تعلم، أجاب أبو جوني وهو يشير إلى الحانة شبه الفارغة، شبه المعتمة.
ـ يا مسترخص اللحم عند المرق تندم!! رد يسار مغنياً بنبرة شبه بدوية شبه حضرية، لكن أبا جوني صب في كأسه شيئاً من حليب السباع ثم مزجه بالماء حاثاً إياه:
ـ اشرب يا سيدي.. اشرب. بعد الكأس الثالثة ستجدها أرشق من غزال. وقهقه يسار. كان يعلم أن أبا جوني على حق، فما يراه وهو صاحٍ غير ما يراه وهو سكران. رفع يسار كأسه داقاً إياه بكأس باقر، ثم هتف وهو يرشق الراقصة بنظرة كالسهم.
ـ في صحة الغزلان!!
رشف باقر شرابه على مهل. هو هكذا!! يحب دائماً أن يبدأ على مهل. الشراب مزاج والمزاج رواق، ثم لم العجلة؟ السهرة في أولها، والليل كله أمامه. عينا باقر تمسحان الحانة: ثمة رواد يتقاطرون مثنى وثلاثاً. الطاولات تتكاثر، ثديا الراقصة يتكاثران، ذراعها تندلقان لحماً... رقبتها تتورم غلظة، "لك الله من غزالة لا تضاهيها ريم الفلاة!!" أنهت الغزالة وصلتها دون أن يصفق لها أحد. لكن أيثبط ذلك من عزيمتها!؟ لا، لا، هي متعودة!! فقد توجهت مرحة فرحة إلى ما وراء الحلبة، كأنما تحملها أمواج التصفيق والهتاف.
ـ اسمع. أنا أكره الصفن فلا تصفن. بدأ يسار مشاكساً وقد غادرهما صاحب الحانة.
ـ ومن قال لك إني أصفن؟
ـ لم لا تتكلم إذن؟
وتبسم باقر. "هو ذا يسار. يكره الصمت. يكره التفكير. يكره الشرود. لكأنه يريد أن يعيش الحاضر لحظة بلحظة، يرشفه حتى الثمالة. فلسفته: بما أننا فقدنا الماضي وليس لنا مستقبل فليكن لنا الحاضر على الأقل".
ـ هه.. عدت للصفن؟ قل شيئاً. تكلم يا رجل.
ـ وماذا أقول؟ يا أهل حلب!! يا أهل اللهو والطرب!!
ـ بل قل يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق!! قاطعه يسار وهو يقهقه، فقد وجد الفرصة السانحة لكي يقهقه. الأضواء الحمراء تبدلت بزرقاء وخضراء والجوقة الموسيقية بدأت استعداداتها لجولة أخرى من العزف، فيما كان فتى أمرد يتقدم من مكبر الصوت.
ـ أهذا مطرب؟ سأل باقر صاحبه.
ـ مطرب ونصف.
ـ أرأيته من قبل؟
ـ مرة واحدة. لكن اطمئن. هو يشق طريقه بهمة وعزم. لحظة توقف، ثم بغمزة ذات مغزى تابع ضاحكاً: بعضهم يحبون الغلمان المخلدين.
ـ خسئت. في بغداد ربما، لكن في البصرة؟ لا، نحن قوم متطهرون متبتلون.
ـ حسبك، باقر، حسبك!! لا بصرة ولا بغداد!! الإنكليز حيثما حلوا أفسدوا!! أم تراهم لم يدخلوا البصرة، أولئك الإنكليز، محبو الغلمان المخلدين!!
ـ فوق النخل.. فوق.. يا سليمى!! فوق النخل... فوق.. بدأ الغلام الأمرد بصوت رخيم كأصوات النساء. وللتو انسحب قلب باقر. فيما تحولت كل خلية فيه إلى أذن صاغية.
ـ ما أدري خدك لمع. يا سليمى. ما ادري القمر فوق.
2017-07-09, 06:40 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» عضو من عائلة أبو هاشم بمصر
2017-07-08, 18:28 من طرف Hany
» مربعانية الشتاء
2017-07-08, 08:59 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» ونذرت شعري للمسرى
2017-07-08, 08:57 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» عايد أبو فردة يشهر كتابه «ديوان السامر الفلسطيني»
2017-07-08, 08:54 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» "وادي الكلاب".. خربة لا ترى النور ---- قرية الصرة
2017-07-08, 08:26 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» طموح مواطنو قرية الصرة في دورا - الخليل
2017-07-08, 08:20 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» دعاء لشهر ذي الحجة 1437
2016-09-03, 20:29 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» صورة وجهاء عائلة أبو هاشم
2016-09-03, 19:53 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم
» اثناء العمل ... فارس طه ابو هاشم
2016-09-03, 19:14 من طرف إدارة منتدى عائلة أبوهاشم